عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بِمُرُوطٍ فَكَانَ فِيهَا مِرْطٌ وَاسِعٌ جَيّدٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنّ هَذَا الْمِرْطَ لَثَمَنُ كَذَا وَكَذَا ، فَلَوْ أَرْسَلْت بِهِ إلَى زَوْجَةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ صَفِيّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ - وَذَلِك حِدْثَانَ مَا دَخَلَتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ . فَقَالَ أَبْعَثُ بِهِ إلَى مَنْ هُوَ أَحَقّ مِنْهَا ، أُمّ عُمَارَةَ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْب ٍ . سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ يَقُولُ مَا الْتَفَتّ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إلّا وَأَنَا أَرَاهَا تُقَاتِلُ دُونِي "مغازي الواقدي - (ج 1 / ص 269).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: "لمَقَاَم نسيبة بنت كعب اليومَ خيرٌ من مقامِ فلان وفلان" [ابن سعد].
وتقول عن نفسها: رأيتُني وقد انكشف الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فما بقى إلا فى نفر لا يتمُّون عشرة، وأنا وابناي وزوجى بين يديه نذبّ عنه (ندافع عنه)، والناس يمرون به منهزمِين، ورآني لا تِرْسَ معي، فرأى رجلاً موليًا معه ترس، فقال ( لصاحب الترْس: "ألْقِ تِرْسَكَ إلى مَنْ يقاتل". فألقى تِرْسَه، فأخذتُه، فجعلتُ أتَتَرَّسُ به عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحابُ الخيل، لو كانوا رجالاً مثلنا، أصبناهم إن شاء اللّه، فأقبل رجل على فرس، فضربنى وتترستُ له، فلم يصنع سيفُه شيئًا، وولَّى، فضربتُ عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا ابنَ أم عمارة، أمك أمك، فعاونني عليه حتى أوردته شَعُوب (الموت). فسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بارك اللّه عليكم من أهل بيت، رحمكم اللّه -أهل البيت-" [مغازي الواقدي - (ج 1 / ص 269)].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم اجعلهم رفقائى فى الجنة" [ابن سعد]. فقالت أم عمارة: ما أبالى ما أصابنى من الدنيا.
ويقول ابنها عبد الله بن زيد: جُرِحْتُ يومئذٍ جرحًا، وجعل الدم لا يرقأ (لا يسكن عن الانقطاع)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اعصب جرحك"، فتُقبل أمي إلي، ومعها عصائب فى حقوها، فربطتْ جرحي، والنبي واقف ينظر إلي، فقال: "انهض بُنَي فَضارب القوم". وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة". قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال صلى الله عليه وسلم : "هذا ضارب ابنك". فاعترضتُُ له فضربتُ ساقه، فبركَ. فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى رأيتُ نواجذه، وقال : "استقدتِ (أخذتِ ثأركِ) يا أم عمارة"، ثم أقبلنا نُعِلُّهُ (تتابع ضربه) بالسلاح حتى أتينا على نَفَسِه. فقال صلى الله عليه وسلم : "الحمد لله الذي ظفرك" [ابن سعد].
إنها السيدة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف الأنصاري، المعروفة بأم عمارة، وأمها الرباب بنت عبد الله بن حبيب بن زيد، أنموذج حَى من نماذج النساء المؤمنات المخلصات، وواحدة من امرأتين حضرتا بيعة العقبة الثانية، وتقول فى ذلك: كانت الرجال تصفِّق على يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، والعباس آخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بقيتُ أنا وأم منيع أختي؛ نادى زوجي "غُزية بن عمرو": يا رسول الله هاتان امرأتان حضرتا معنا يبايعانك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قد بايعتُهما على ما بايعتُكم عليه، إني لا أصافح النساء" [الإصابة 4 / 109].
جاهدتْ فى الله بكل ما أوتيتْ من قوة، ونذرت نفسها لإعلاء كلمة اللّه، فقاتلتْ يوم أُحد وجُرِحت اثنتي عشرة جراحة، وداوت جرحًا في عنقها لمدة سنة حتى قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم "لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان" [ابن سعد]، ولما نادى النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، شدت عليها ثيابها، فما استطاعت من نزف الدم، كما شهدت الحديبية وخيبر وحنينًا ويوم اليمامة.
وهي أخت عبد اللّه بن كعب الذي شهد بدرًا، وأخت أبي ليلى عبد الرحمن بن كعب -أحد البكّائين- لأبيها وأمها.
تزوجتْ من زيد بن عاصم النجاري فولدتْ له عبدالله وحبيبًا، اللذين صحبا النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم تزوجت بعده غزية بن عمرو من بني النجار، فولدت له تميمًا وخولة. وقد شهد معها ومع ابنيها من زوجها الأول أُحُدًا.
كانت نسيبة تحافظ على حضور الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كبقية النساء آنذاك، فتسمع منه الدروس وتتعلم أدب الإسلام.
ولما بلغها أن ابنها "حبيبًا" قتله مسيلمة الكذاب، ومثَّل به -حين بعثه أبو بكر إليه؛ ليدعوه إلى الإسلام ويُرْجِعُهُ عن افتراءاته وكذبه- عاهدتْ الله أن لا تموت دون هذا الكذَّاب؛ لهذا جاءت الصديق أبا بكر -عندما أراد إرسال الجيش إلى اليمامة لمحاربة المرتدين ومسيلمة الكذاب- تستأذنه فى الخروج مع الجيش، فقال لها: قد عرفنا بلاءَكِ فى الحرب، فاخرجي على اسم اللّه. وأوصى خالدَ بن الوليد بها خيرًا، وفي المعركة جاهدت وأبلت أحسن البلاء، وجُرحت أحد عشر جرحًا وقُطِعَتْ يدها، واستشهد ابنها الثاني عبد اللَّه، وذلك بعد أن شارك معها فى قتل مسيلمة عدو اللّه.
ولما هدأت الحرب وصارت أم عمارة إلى منزلها؛ جاءها خالد بن الوليد يطلب من العرب مداواتها بالزيت المغلي، فكان أشد عليها من القطع، ولهذا كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يعودها - وهو خليفة - بعدما عادت من اليمامة؛ لأنه أكرم فيها إيمانها وصدقها وبطولتها، وعَرَفَ شهادة نبي الله صلى الله عليه وسلم فيها؛ لهذا ظل يسأل عنها ويعودها، حتى شُفِيَتْ بإذن الله.وكان خالد بن الوليد يزورها ويعرف حقها ويحفظ فيها وصية سيد البشر صلى الله عليه وسلم .تلك هي المسلمة المجاهدة الداعية المربية، التي تعدُّ الأبطال، وتربي الرجال، التي لا تعبأ بما يصيبها في الدنيا، بعد أن دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم برفقته فى الجنة، فكانت فى طليعة المؤمنات الصادقات، ورصَّعَتْ تاريخها على جبين التاريخ لتكون نموذجًا يُحتذى في كل العصور.