كانت مستندة على احدى أشجار الزيتون ...تراقب قرص الشمس وهي تغادر مودعة الأرض ...ثم صارت الأرض تتقلب من لون الى آخر ...ظل الشفق الأحمر مدة قصيرة...ثم حل الظلام....
ولا تزال تلك الطفلة تراقب النجوم حتى سمعت من يناديها ويقول:
أمل ...أين أنت يا ابنتي؟
ركضت أمل مسرعة لأمها في ذلك البيت الصغير وهي تقول:ها أنا يا أمي..
عندما دخلت تلك الطفلة الصغيرة الى المنزل رأت ما لم يكن في الحسبان .....كانت والدتها تعد الحقائب للسفر فتساءلت أمل قائلة :ما الأمر يا أمي هل سنغادر المنزل؟
نظرت الأم لابنتها وعلى وجهها ابتسامة يخالطها الألم: أجل يا ابنتي سنغادر الليلة...
تفاجأت الطفلة وقالت:لماذا يا أمي؟ان منزلنا رائع...فلماذا نتركه؟...الى أين سنذهب أصلا؟
نظرت الأم صوب النافذة وهي تقول:أرض الله واسعة...سنذهب الى أي مكان نشعر فيه بالأمان.
ظلت أمل مندهشة وبدا على وجهها البريء ذلك وقالت:ألسنا بأمان هنا؟!!!
نظرت الأم الى عيني طفلتها المليئة بالدموع ا كالدلو المليء بالماء على وشك السقوط وقالت لها:اسمعيني يا ابنتي ان عدونا يريد النيل منا وقد سمعت أنهم وصلوا الى قريتنا وهم يتوعدون لنا بالشر لذلك علينا أن نغادر.
وعندها ترقرقت دموع أمل الشفافة وقالت :أتظنين أننا سنكون بخير.
فاحتضنت الأم ابنتها بلطف وقالت:باذن الله سنكون بخير لا تقلقي فأنا هنا معك.
وفجأة تحطم باب المنزل بقوة دخل منه رجل ما وأخذ يصرخ ويقول:أسرعا ان الأعداء ينتشرون في كل مكان علينا أن نهرب قبل أن يفتكوا بنا...
فقالت الأم:ولكنني لم أعد الحقائب بعد...
فرد قائلا:هذا ليس وقته أحضري فقط حقيبة الطعام وهيا بنا...هيا يا ابنتي استعدي.
حمل الأب الحقيبة وأمسكت الأم بيد ابنتها أمل وعندما هما بالخروج لم تتحرك أمل كانت متجمدة مكانها ...تنظر الى مكان ما ...الى هذا المكان حيث كانت دميتها الصغيرة والدموع تنهمر من عينيها الحزينتين فقالت الأم:
أملي هذا ليس وقته صحيح علينا أن نذهب..ألم تسمعي ما قاله والدك..
أبعدت أمل يدها من والدتها وركضت تجاه دميتها واحتضنتها وهي تقول:لا تقلقي يا دميتي سوف أحميك ولن يفرقنا أحد...
ثم خرجت مع والديها مغادرة ولكنها قبل أن تذهب وقفة وقفة صامتة تودع منزلها الوداع الأخير ...الى ذلك المنزل الذي عاشت فيه أجمل أيام حياتها ...الى ذلك الحقل الذي لطالما لعبت فيه...والى تلك الأشجار "أشجار الزيتون"التي تغذت منها وترعرعت تحت ظلالها وتستند عليها اذا أرادت أن ترسم ..تمنت عندها لوتقول للمنزل "سأعود يوما ما "...ولكن لم يكن هذا هو الواقع ...لأن ما كان عليها أن تقول هو "وداعا لا لقاء بعده"...عندها أغمضت عينيها وقالت:لا أستطيع.
تعجب والديها من ردة فعلها وقالا:لا تستطيعين ماذا؟
فقالت والحزن يخيم عليها:لا أستطيع أن أفارق أجمل أيام حياتي....لا أستطيع أن أهاجر أحلامي...لا أستطيع أن أغادر موطني...لا أستطيع لا أستطيع أن أتحمل فراقا كهذا...منزليزززأشجاري....أصدقائي...لا أستطيع أن أسمح لأعدائي أن يأخذوا ذلك مني بكل سهولة وأفقده أنا بكل ما تحتويه الكلمة من معنى...الهرب يعني الأستسلام...يعني مساعدة هؤلاء على الوصول الى مغزاهم ...هكذا سأكون قد قتلت قبل أن تتصاعد روحي الى السماء...واذا فارقت الحياة فسأكون هكذا قد فارقتها مرتين...اذا كنت سأقتل فسأقتل هنا على أرض بلادي...لأموت مدافعة عنه بشرف ...لن أسمح لهم بالنيل مني بهذه السهولة...........
يا لها من كلمات حارة وقوية صدرت من طفلة عاجزة لا حول لها ولا قوة ....كانت كلماتها بمثابة السهم الذي يصوب تجاه والديها كيف لا...لقد كانت صادقة في كل كلمة قالتها...كانت تتكلم من أعماق قلبها ....تفطرت الأم ألما وهي تقول:أعلم أن هذا صعب...نعم صعب ...ولكن سيصعب علي أكثر أن أراك تمسين بسوء...لا أريد أن أفقد الأمل الوحيد الذي تبقى لي في هذه الحياة...أرجوك يا ابنتي تقبلي الواقع....
- لا يا أمي لن أغادر....مفارقتي لهذا المكان هو موتي الحقيقي........
غضب الأب من اصرار أمل...غضب عندما رأى نفسه يعجز عن الرد عليها...غضب لأنه اكتشف أنه يعجز أن يساعد ابنته...نوارة قلبه...ولكن ما باليد حيلةفأمر الأم أن تحمل أمل وتأخذها بالقوة وهو سيحمل المؤن........
حملت الأم ابنتها وأخذا بالركض ...وكلما ابتعدا عن المكان زاد صراخ أمل ...زاد أنينها...زادت عبراتها ...ثم انفجر المنزل بسرعة البرق بعد أن صوب عليه بصاروخ هؤلاء الخونة المستعمرين ..واختفى مع جدران المنزل صراخ أمل ...عجزت عن النطق...عن الحركة...أو المقاومة...ظلت تراقب ودموعها لا تتوقف...ولن تتوقف...لقد علمت أنها البداية وحسب.......
وصلوا الى منطقة جبلية فصرخت الأم:يبدو أننا محاصرون الى أين سنتجه...
فطمأنها الأب وقال:بل على العكس هذا هو طريقنا عندما سنعبر هذا الجبل سنصل الى محطة القطار التي ستأخذنا بعيدا عن هنا......حيث سنجد الأمان.
حمل الأب ابنته المنهارة وأسرعا نحو أسفل الجبل وأخذا بالنزول...ولكن لسوء حظهم رآهم أحد جنود العدو الماكرين وصوب رصاصته الأولى على والد أمل على أبيها الحنون الذي تحتمي خلف ظهره ...لم يكفي هذا السفاح ذلك فصوب تجاه والدتها بالبندقية...أراد أن يرى كيف سيكون حال هذه الطفلة بعد أن ترى ذلك كما لو أنه يلعب...وهم مجرد دمى...............
سقطا والديها من على الجبل وسقطت معهم أمل ثم نظرت اليهما فوجدتهما لا يتحركان لقد تصاعدت روحهما نحو السماء ...نظرت الى دمائهم ووضعت كفيها على هذه الدماء لا تزال منصدمة....ثم أخذت تتمتم : أبي أمي...قولا شيئا....أي شيء...هيا لن أتذمر مجددا...سآتي معكم الى القطار...لن أعصيكما مجددا...سأكون طفلة مؤدبة وطالبه مجتهدة تفخران بها...أليس هذا ما تريدانه...أن أكون الأفضل...سأفعل ...أعدكم ولكن لا تصمتا هكذا...لا أريد أن أكون وحدي رجاء...
حاولت الطفلة المسكينة أن تبرر الموقف أن تكذب ما تراه كانت تحاول أن تقنع نفسها أنهما بخير ولكن كان الجواب دائما"لقد حان الوداع"لقد ماتا على يد هؤلاء الشياطين...على هؤلاء القساة ...ظلت تتحدث اليهما كالمجنونة ولكن لا حياة لمن تنادي...
أخرجت أمل من جيب والدها احدى الأوراق وغرست يديها في دمائهما وأخذت تكتب ثم قذفت بهذه الورقة لتحملها الرياح الى حيث أرادت أمل....
اقترب ذلك الجندي الحقير تجاه أمل والأبتسامة العريضة لا تفارق وجهه القبيح ...نظرت اليه...كان ينتظر منها نظرة الخائفة المهزومة...نظرة الطالب للرحمة...نظرت الحزن والخوف....ولكن لم يحدث ما تمناه هذا الحاقد ...لقد نظرت اليه بقوة صارمة كالسهم...نظرت اليه باستحقار...كانت تبتسم ساخرة منه...وتقول:أتظن أنك انتصرت..يؤسفني أنك لم تفعل...لا أزال أمل...ولدي الأمل....لقد مات والداي ولكنهما هنا في قلبي ,,,وروحهما بين يدي الرحمن الذي لن يجدا أحن منه سبحانه عليهما....
قد لا يكون هذا الجندي قد فهم ما قالت ولكن تعابير وجهها جعلته بالكاد يفهم...لقد كانت منتصرة عليه رغم ضعفها...منتصرة عليه بايمانها...........
فشعر بالغيظ ووجه تجاها بندقيته بيديه الضعيفتين ظنا منه أن هذا سيخيفها ولكنها لا زالت تنظر ...لم تغمض لها جفنا...كانت تتحداه وتبين له مدى ضعفه...قد يكون تغلب عليها ببندقيته...لكنها تغلبت عليه بالله وحسبها ذلك وكفى..
ثم أطلق الرصاص فسالت دمائها كالبحر على دميتها الصغيرة وفارقت الحياة لكن ابتسامتها...لم تفارقها...
ولا تزال تلك الورقة تتطاير يمينا ويسارا حتى وصلت هناك...على هذا الشاطيء حيث كانت هذه العائلة تمرح وتلعب والأصدقاء في كل مكان...وصلت الورقة عند قدمي طفلة بنفس عمر أمل في الثامنة من عمرها تقريبا ...أمسكت الطفلة الورقة ...ثم أذرفت الدموع...........هل تعلم لماذا؟
بسبب ما كتب على هذه الورقة بالدماء..............لقد كتب فيها........
الأسم:طفلة أنهكتها الحروب.
العمر:عاشته في القهر.
الحالة:يائسة...شريدة.
المشكلة:لدينا الأمل ...ولكن أخشى ألا يكون غير كافيا.
أتمنى:لو تشعروا بنا.
أخاف : الوحدة.
وأسأل :الى متى نظل نحلم؟
...............................
ولكن لم تنتهي القصة بعد فلا يزال هناك الكثير من أمل.....في انتظاركم...فماذا فعلتم تجاه هؤلاء؟؟؟؟؟؟.....