كان عبد الله بن عباس من أجود العرب ,وكان منصرفا من الشام الى الحجاز , فنزل منزلا فى الطريق , وطلب من غلمانه طعاما فلم يجدوا ,
فقال لوكيله :اذهب فى هذه البرية ؟ فلعلك تجد راعيا أو حيا فيه لبن أو طعاما.
فمضى الغلمان فرأوا عجوزا فى حى , فقالوا لها : أعندك شىء من طعام نبتاعه ؟
قالت : أما البيع فلا ولكن عندى مالى ولابنائى به حاجة.
قالوا : فأين بنوك ؟
قالت : فى رعى لهم ,وهذا أوان أوبتهم.
قالوا : فما أعددت لك ولهم ؟
قالت : خبزة تحت قلتها.
قالوا : وما عندك غير ذلك ؟
قالت : لا شىء.
قالوا : فجودى لنا بشطرها .
فقالت : أما الشطر فلا أجود به , وأما الكل فخذوه .
فقالوا لها : تمنعين النصف وتجودين بالكل كمالا وفضيلة .
قالت : أنا أمنع ما يضعنى وأمنح ما يرفعنى .
فأخذوها ولم تسالهم من هم ولا من أين جاءوا.
فلما جاءوا الى عبد الله وأخبره بخبرها عجب من ذلك , ثم قال : احملوها الى الساعة .
فرجعوا اليها , وقالوا لها : انطلقى معنا الى صاحبنا فانه يريد ان يراك .
فقالت : ومن صاحبكم؟
قالوا : عبد الله بن عباس .
قالت : وأبيكم هذا هو الشرف العالى وذروته الرفيعة ! وماذا يريد منى ؟
قالوا : مكافأتك وبرك
فقالت : أوه ! والله لو كان ما فعلت معروف ما أخذت له بدلا , فكيف وهو شىء يجب على الخلق أن يشارك فيه بعضهم بعضا؟
فلما يزالوا بها حتى أخذوها اليه.
فلما وصلت اليه سلمت فرد عليها السلام , وقرب مجلسها , ثم قال : ممن انت؟
قالت : من بنى كلاب
قال: فكيف حالكظ
قالت : أسهر اليسير , وأهجع أكثر الليل , وأرى قرة العين فى بنى , فلم يك من الدنيا شىء الا وجدته فيهم .
قال : فما ادخرت لبنيك اذا رجعوا؟
قالت : ادخرت لهم ما قاله حاتم طيىء:
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به ؟أكرم المأكل
فازداد عبد الله منها تعجبا , ثم قال : لو جاء بنوك وهم جياع فما كنت تصنعين ؟ قالت : يا هذا لقد عظمت عندك هذه الخبزة حتى أكثرت فيها مقالك , وأشغلت بها بالك , فدع هذا فانه يفسد النفس.
فقال عبد الله : أحضروا الى اولادها
فلما دنوا منه رأوا أمهم وسلموا , فادناهم اليه وقال : انى لك أطلبكم لمكروه وانما أحب أن أصلح شأنكم وألم شعسكم.
فقالوا : ان هذا قل ان يكون الا عن سؤال أو مكافأة لفعل قديم .
قال : ليس شىء من ذلك , ولكن جاورتكم فى هذه الليلة فأحببت أن أضع بعض مالى فيكم .
قالوا : يا هذا , نحن فى خفض عيش وكفاف من الرزق , فوجهه نحو من يستحقه , وان اردت النوال مبتدئا من غير سؤال فتقدم , فمعروفك مشكور وبرك مقبول .
فقال : نعم هو ذاك.
وأمر بعشرة الاف درهم وعشرون ناقة ,فقالت العجوز لاولادها : ليقل كل واحد منكم شيئا من الشعر , وأنا أتبعكم فى شىء منه .
فقال الاكبر : شهدت عليك بطيب الكلام وطيب الفعال وطيب الخبر
وقال الاوسط : تبرعت بالجود قبل السؤال فعال عظيم كريم الخطر
وقال الاصغر :وحق لمن كان ذا فعله بأن يسترق رقاب البشر
وقالت العجوز: فعمرك الله من ماجد ووقيت كل الردى والغير