أكتب ما سأكتبه و أنا بكامل قوايَ العقلية و البصريَّة و ربما البصيرية المصيرية .. عن وَاقِعٍ اِختلَّت فِيهِ المعايير التمايزية .. فلا نعرف عن ذا ما يكون و لا نتوقع من ذاك ألَّا يكون ..
وَاقِعٌ شَبَعَ و ارتوى من خَمرِ الحَضَارةِ و لذَّةِ الفُرُشِ ..
و كي لا أذهَبَ بالعقولِ و الأفهامِ بعيداً أكثَرَ مما هيَ بعيدة !! أحكي لكم قِصَّةَ ما قبل السُّبَاتِ ..
رأيتهُ يمشي قاطعاً طُرُقَاتِ المدينةِ بمشيَتِهِ الَّتي أعهَدُها .. بتؤدَّةٍ دونما مكابرة .. شابٌّ فريدٌ من نوعه .. جَمَعَ من الجَمَالِ و الوسامةِ المرغوبةِ جَسَدَاً و رُوحَاً مُتَوَّجةً بِميزَةٍ أخرى لا أظنَّها تتواجد في جيلنا .. جيل اليويو و الصرعاتِ الصارعة .. يُحِبُّ القراءةَ و كأنَّما هي خليلته .. يُصاحبُ الكتبَ و يتأبَّطُها كما لو كانت طفلاً يُخشَى عليه من التَيه .. كم هوَ نهِمٌ للقراءة لا يشبَعُ أبداً .. قَرَأَ للكلّ في كلّ .. لم يترك مجالاً إلا و قرأ عنه .. كُنتُ أتوسَّمُ فيهِ خير الأمَّةِ الغارقة بشَتَّى المُلهياتِ و أنواعِ المُغرِيات ..
ياااااه !! لقد كَبُرَ وسيمٌ و شَبّ فاشتدَّ ساعدَهُ و قَوِيَ عظمُه .. انَّه الان في مصافِّ الرجال .. ترى !! مَن ستكون سعيدةُ الحظِّ بكَ يا وسيم ..
قَبّلتهُ كما تقَبِّل زوجها .. لكنَّ وسيم غير متزوِّج !! مَن هذهِ !! .. و كيف هوَ لم يقاوِم !!
لحظة !! لحظة !! وسيم قاومَ أنواعَ الظلم من الأهل و الأقارب .. كادوا يحتجِزونهُ في قفص زواجِ الأقارب لكنَّهُ لم يذعِن .. بل و أقنعَ الكلَّ بحُجَّتهِ الدامغة .. (لا إكراهَ في الدين) .. وَ هل بعد بلاغةِ القرآنِ بلاغة !!
اقتربت منه حين لم يلحظني .. و حين رآني أنتصبُ أمامه كادت الدهشةُ تُذهب بشعرهِ الأسودِ الأليَلِ الحريري فتحيلها شمسَاً في وهَجِ البياض .. رحَّبَ بي و عانقَني .. فلطالما قالَ عنّي أختَهُ الصغيرة .. لم أرَهُ منذ رحَلت عائلتهُ و استقرَّت في اسبانيا .. مُذ كانَ في الخامسةَ عشرَ ربيعاً بحُجَّةِ عملِ والدِه .. و ها هوَ ذا الان رجلٌ يُعتدّ به ..
تبادلنا أطرافَ الحديث و بعدَ برهةٍ خَرَجَت ذاتُ الفتاة من محلٍّ قريب .. و بيدها حزمةُ بيرة !! و كأنَّها تُعدُّ لحفلة !! اقتَرَبَت .. و تأبَّطت ذراعه .. و نظَرَت إليه منتظرةً أن يعرّفنا ببعض ..
إذاً هي صديقتكَ يا وسيم !!
خَجَلَ بدايةً .. ثم أطلقَ ضحكَتَهُ الوقورة المحبَّبة و هزَّ رأسهُ مؤكداً لكلامي .. هيَ صديقتي .. !!
يتعانقان على المَلَأ دونما وازعٍ و رادع .. و القُبَلُ الخاطفة بين الفينةِ و الفينة دونما حياء .. نَظَرتُ إليهِ مليَّاً أتمعَّنُ في هذا الذي كانَ يَعِظُ و يُذكِّر حين كان طفلاً .. الان يحتضن و يعانق و بسلاسةٍ !!
دعاني للغداء في احدى الأيام .. و لبَّيت الدعوة بسرور فقط لأرى أمَّه و أرى ما ستقولهُ عن حال ابنها .. لأكتشِفَ أن وسيماً استقلَّ بخصوصياته فلا يريد من يأمره و ينهاهُ .. بحُجَّةِ أنَّهُ الان رجل و يفعل ما يحلو له !! ..و الويل كلُّ الويل لو رأى اخته تفعل ما يفعل !! فهي أنثى .. (و ليس الذكر كالأنثى) ..
من طفلٍ صَنَعَ المعجزاتَ بلسانهِ الرقيق .. لِتبَعٍ لمن تؤمن بالمسيح الربّ !! من ناصحٍ يرشُّ الماءَ على أبيه ان رآهُ نائماً و المؤذنُ يُنادي .. حيَّ على الصلاة .. لرجُلٍ لا أدري أَ يعي ما يفعل أم طَمَس الغرب على طبعه و أطباعه كما طَمَسوا على هوَّتِهِ العربيةِ الأصيلة !!
هذا واقعُ بعضالشَّبابِ العربيّ المهاجر الذي فَضَّلَ الحياة خارجَ الوطن لكَسبِ الرزق و انجَرَفَ مع تيار التحضُّر أو التحَقُّر سمِّهِ ما شئت !! ..
واقعٌ نهربُ منه و ندسّ الرؤوس في التراب منه و لا ندير له بالاً و لا اعتباراً .. أعطيناهم كامل الحرية و مُطلَقِ السلطة لتسيير حياتهم بعد الهرب من دكتاتورية الأهل و سيطرتهم على صغير الأمور و حقيرها ..
ما عدتُ أميِّز منافعَ السفرِ و مضارُّه .. هل أسافر و أتلوَّى جوعاً للوطن و أشارفُ الموتَ عَطَشاً لعذبِ ذكراه !! أم اجلس و أكتفي بما أراه من حال الناس من حولي !!
هل أضيّع من البعثات و المنحات للتقدّم العلمي كي لا أسلكَ مسلكَ المغضوبِ عليهم و الضالّين !!
دعوةٌ من الأعماق .. بل هي صرخة من الأعماق !! لنتناقش في هذا الأمر الجَلَل و المصاب الأمَرّ .. فهل تراها تصلُ لأسماعكم .. فَتمدّوا اليد الحنون لانتشال الضحايا !!